سورة القمر - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (القمر)


        


يقول الحق جلّ جلاله: {كذبت ثمودُ بالنُذُر} بصالح عليه السلام؛ لأنَّ مَن كذّب واحداً فقد كذّب الجميع؛ لاتفاقهم في الشرائع، أو: كذّبوا بالإنذارات والمواعظ التي يسمعونها من صالح، {فقالوا أَبَشراً منا} أي: كائناً من جنسنا، وانتصابه بفعل يُفسره {نتبعه} أي: أنتبع بشراً منا {واحداً} منفرداً لا تباعة له؟ أو: واحداً من الناس لا شرف له {نَتبه} وندع ديننا؟ {إِنَّا إِذاً} أي: على تقدير اتباعنا له، وهو مفرد ونحن أمة جمة {لفي ضلالٍ} عن الصواب {وسُعُرٍ} نيران تحرق، جمع سعير. كان صالح يقول فعكسوا عليه، لغاية عتوهم، وقالوا: إن اتبعناك كنا كنا تقول. وقيل: المراد بالسعر: الجنون، لأنها تشوه صاحبها، أنكروا أن يكون الرسول بشراً، وطلبوا أن يكون من الملائكة، وأنكروا أن تتبع أمةٌ واحداً، أو: رجلاً لا شرف له في زعمهم، حيث لم يتعاط معهم أسباب الدنيا. ويؤيد التأويل الثاني قوله: {أأُلقيَ الذِكْرُ} أي: الوحي {عليه مِن بيننا} وفينا مَن هو أحق منه بالاختيار للنبوة؟ {بل هو كذّاب أشِرٌ} أي: بطر متكبر، حَمَلَه بطرُه وطلبُه التعظيم علينا على ادعائه ذلك.
قال تعالى: {سيعلمون غداً} أي: عن قريب، وهو عند نزول العذاب بهم، أو يوم القيامة، {مَن الكذّابُ الأشِرُ} أصالح أم مَن كذّبه؟ وقرأ الشامي وحمزة بتاء الخطاب، على حكاية ما قاله صالح مجيباً لهم. {إِنا مرسلوا الناقةِ} باعثوها ومخرجوها من الهضبة كما سألوا، {فتنةً لهم} ابتلاءً وامتحاناً لهم، مفعول له، أو: حال، {فارتقبهم} فانتظرهم وتبصّر ما هم صانعون {واصْطَبر} على أذاهم، ولا تعجل حتى ياتيك أمري.
{ونَبِّئهم أنَّ الماءَ قِسْمةٌ بينهم} مقسوم بينهم، لها شِرْب يوم، ولهم شِرْب يوم، وقال: {بينهم} تغليباً للعقلاء. {كُل شِرْبِ مُحتَضَرٌ} محضور، يحضر القوم الشرب يوماً، وتحضر الناقة يوماً، {فنادَوا صَاحِبَهم} قُدَار بن سالف، حُمير ثمود، {فتعاطَى} فاجترأ على تعاطي الأمر العظيم، غير مكترث به، {فعَقَرَ} الناقة، أو: فتعاطى الناقة فعقرها، أو: تعاطى السيف فقتلها، والتعاطي: تناول الشيء بتكلُّف. وقال أبو حيان: هو مضارع عاطا، وكأنّ هذه الفعلة تدافعها الناس بعضهم بعضاً، فتعاطاها قدار وتناول العقر بيده.
{فكيف كان عذابي ونُذُر إِنَّا أرسلنا عليهم} في اليوم الرابع مِن عَقْرها، {صَيحةً واحدة} صاح بهم جبريل عليه السلام {فكانوا} فصاروا {كهشيمِ المحتظِر} كالشجر اليابس الذي يجده مَن يعمل الحظيرة، فالهشيم: الشجرة اليابس المتكسر، الذي يبس من طول الزمان، وتتوطّؤه البهائم؛ فيتحطّم ويتهشّم، والمحتظر: الذي يعمل الحظيرة. قال ابن عباس: هو الرجل يجعل لغنمه حظيرة من الشجر والشوك، فما يسقط من ذلك ودرسته الغنم فهو هشيم شبههم في تبدُّدهم، وتفرُّق أوصالهم، بالشوك الساقط على الأرض، {ولقد يَسَّرْنا القرآن للذكر فهل من مُدَّكِرٍ} فيتعظ بما يسمع من هذه القصص.
الإشارة: سبب إنكار الناس على أهل الخصوصية؛ ظهور وصف البشرية عليهم، ولا يلزم من وجود الخصوصية عدم وصف البشرية، ووصف البشرية على قسمين:
قسم لازم، لا تنفك العبودية عنه، كالأكل والشرب والنوم والنكاح، وغيرها من الأوصاف الضرورية، وهذه هي التي تجامع الخصوصية، وبها سترت، واحتجبت حتى أنكرت، فوجودها في العبد كمال؛ لإنها صِوان لسر الخصوصية. قال في الحكم: (سبحان مَن ستر سر الخصوصية بظهور وصف البشرية، وظهر بعظمة الربوبية في إظهار العبودية). وقسم عارض يمكن زواله؛ وهي الأوصاف المذمومة، كالكبر والحسد والحقد، وحب الدنيا والرياسة، وغير ذلك، فهذا لا تجامعه الخصوصية، ولا بد من التطهير منه في وجودها.
وللقشيري إشارة أخرى، وحاصلها: كذبت ثمود؛ النفسُ الأمّارة وجنودُها: صالح القلب؛ حين دعاها إلى الخروج عن عوائدها، والتطهُّر من أوصافها المذمومة، فقالت النفسُ وجنودها: أنتبع واحداً منا، لأنه مخلوق مثلنا، ونحن عُصبة؟ إنا إذاً لفي ضلال سُعر، أأُلقي الذكر الإلهامي عليه مِن بيننا؟ بل هذ كذَّاب أشر، سيعلمون غداً، حين يقع لهم الرحيل من عالمهم، مَنِ الكذابُ الأشر، أثمود النفس وجنودها، أم صالح القلب؟. إنّا مرسل ناقة النفس فتنة لهم، ابتلاءً؛ ليظهر الخصوص من العموم، فارتقبهم، لعلهم يرجعون إلى أصلهم من النزاهة والطهارة، واصطبر في مجاهدتهم، ونبئهم أنَّ ماء الحياة- وهي الخمرة الأزلية- قسمة بينهم، مَن شَرِبَ منها، صفا، ومَن تنكّب عنها أظلم، كُل شِرْب يحضره مَن يتأهل له. فنادوا صاحبهم- وهو الهوى- فتعاطى ناقة النفس، التي أرادت العروج إلى وطن الروح، فعقرها وردها إلى وطنها الخسيس، فكيف كان عذابي لها وإنذاري إياها؟ إنَّا أرسلنا عليهم صيحةَ القهر، فسقطوا إلى الحضيض الأسفل، فكانا كهشيم المحتظر؛ صاروا أرضيين بعد أن كانوا سماويين. اهـ. بالمعنى مع تخالف له.
ثم قال القشيري: اعلم أن النفس حقيقة واحدة، غير متعددة، لكن بحسب توارد الصفات المتباينة تعددت أسماؤها، فإذا توجهت إلى الحق توجهاً كليّاً؛ سميت مطمئنة، وإذا توجهت إلى الطبيعة البشرية توجهاً كليّاً؛ سميت أمّارة، وإذا توجهت إلى الحق تارة، وإلى الطبيعة أخرى؛ سميت لوّامة. ه مختصراً.


يقول الحق جلّ جلاله: {كذبت قومُ لوط بالنُذر} وقد تقدّم، {إِنّا أرسلنا عليهم} أي: على قوم لوط {حاصِباً} أي: ريحاً تحصبهم، أي: ترميهم بالحصباء، {إِلا آلَ لوطٍ} ابنتيه ومَن آمن معه، {نجيناهم بسَحَرٍ} ملتبسين بسَحَرٍ من الأسحار، ولذا صرفه، وهو آخر الليل، أو: السُدس الأخير منه، وقيل: هما سحران، فالسَحَر الأعلى: قبل انصداع الفجر، والآخر: عند انصداعه، {نعمةً مِن عندنا} أي: إنعاماً منا، وهو علة لنجَّينا، {كذلك} أي: مثل ذلك الجزاء العجيب {نجزي من شَكَرَ} نعمتنا بالإيمان والطاعة.
{ولقد أَنذَرَهم} لوط {بطشَتنا} أخذتنا الشديدة بالعذاب، {فتمَارَوا} فكذّبوا {بالنُذُر} بإنذاره متشاكّين فيه، {ولقد راودوه عن ضيفه} قصدوا الفجور بأضيافه، {فطمسنا أعينَهم} فمسخناها وسويناها كسائر الوجه، أي: صارت وجوههم صفيحة واحدة لا ثقب فيها.
رُوي أنهم لمَّا قصدوا دار لوط، وعالجوا بابها ليدخلوا، قالت الرسل للوط: خلّ بينهم وبين الدخول، فإنّا رُسل ربك، لن يصلوا إليك. وفي رواية: لمّا مُنعوا من الباب تسوّروا الحائط، فدخلوا، فصفعهم جبريل بجناحه؛ فتركهم عُمياً يترددون، ولا يهتدون إلى الباب، فأخرجهم لوط عُمياً. وقلنا لهم على ألسنة الرسل، أو بلسان الحال: {فذُوقوا عذابي ونُذُرِ} أي: وبال إنذاري، والمراد به: الطمس؛ فإنه من جملة ما أُنذروا به.
{ولقد صبَّحهم بُكرةً} أول النهار {عذابٌ مستقِرٌ} لا يفارقهم حتى يُسلمهم إلى النار، وفي وصفه بالاستقرار إيماء إلى أنّ عذاب الطمس ينتهي إليه، {فذوقوا عذابي ونُذُرِ} حكاية لما قيل لهم حينئذ من جهته- تعالى- تشديداً للعتاب.
{ولقد يَسَّرنا القرآنَ للذكر فهل من مُّدكرِ} قال النسفي: وفائدة تكرير هذه الآية، أن يجدّدوا عند سماع كل نبأ من أنباء الأولين ادّكاراً واتعاظاً إذا سمعوا الحث على ذلك، وأن يستأنفوا تنبُّهاً واستيقاظاً إذا سمعوا الحثّ على ذلك، وهكذا حكم التكرير في قوله: {فَبِأَيِّ ءَالآءِ رَبِّكُمَا تُكّذِّبَانِ} [الرحمن: 13] عند كل نعمة عدّها، وقوله: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات: 15] عند كل آية أوردها، وكذا تكرير القصص في أنفسها؛ لتكون تلك العبر حاضرة للقلوب، مصوّرة في الأذهان، مذكّرة غير منسيّةٍ في كل أوان. اهـ.
الإشارة: قال القشيري: يُشير إلى أنَّ كل مَن غلبته الشهوةُ البهيمية- شهوة الجماع- يجب عليه أن يقهر تلك الصفة، ويكسرها بأحجار ذكر لا إله إلا الله، ويُعالج تلك الصفة بضدها، وهو العفة. اهـ. فالإشارة بقوم لوط إلى الشهوات الجسمانية، فقد كذّب الروحَ حين دعتها إلى مقام الصفا، ودعتها النفسُ بالميل إليها إلى الحضيض الأسفل، فإذا أراد اللّهُ نصر عبده أرسل عليها حاصب الواردات والمجاهدات، فمحتْ أوصافها الذميمة، ونقلتها إلى مقام الروحانية، قال تعالى: {إنا أرسلنا عليه حاصباً إلا آل لوط} يعني الأوصاف المحمودة، نجيناهم في آخر ليل القطيعة، أو: الروح وأوصافها الحميدة، نجيناها في وقت النفحات من التدنُّس بأوصاف النفس الأمّارة، نعمةً من عندنا، لا بمجاهدة ولا سبب، كذلك نَجزي من شكر نعمة العناية، وشكر مَن جاءت على يديه الهداية، وهم الوسائط من شيوخ التربية.
ولقد أنذر الروحُ النفسَ وهواها وجنودها بطشَتنا: قهرنا، بوارد قهري، مِن خوف مُزعج، أو شوقٍ مُقلق، حتى يُخرجها من وطنها، فتَماروا بالنُذر، وقالوا: لم يبقَ مَن يُخرجنا مِن وطننا، فقد انقطعت التربية، ولا يمكن إخراجنا بغيرها، ولقد راودوه عن ضيفه، راودوا الروحَ عن نور معرفته ويقينه، بالميل إلى شهوات النفس؛ فطمسنا أعينهم، فلم يتمكنوا من رد الروح إذا سبقت لها العناية، فيُقال للنفس وجنودِها، ذوقوا عذابي ونُذُري بالبقاء مع الخواطر والهموم، ولقد صبّحهم أول نهار المعرفة حين أشرقت شموس العيان عذاب مستقر، وهو مَحق أوصاف النفس، والغيبة عنها أبداً سرمداً. والله تعالى أعلم.


يقول الحق جلّ جلاله: {ولقد جاء آلَ فرعونَ النُذُر} موسى وهارون، جمعهما لغاية ما عالجا في إنذارهم، أو: بمعنى الإنذار، وصدّر قصتهم بالتوكيد القسمي؛ لإبراز كمال الإعتناء بشأنها؛ لغاية عِظَم ما فيها من الآيات، وكثرتها، وهول ما لاقوه من العذاب، واكتفى بذكر آل فرعون؛ للعلم بأنَّ نفسه أولى بذلك، {كذَّبوا بآياتنا كلها} وهي التسع {فأخذناهم أَخْذَ عزيزٍ} لا يغالَب {مقتدرٍ} لا يعجزه شيء.
الإشارة: النفوس الفراعنة، التي حكمت المشيئة بشقائها، لا ينفع فيها وعظ ولا تذكير؛ لأنَّ الكبرياء من صفة الحق، فمَن نازع اللّهَ فيها قصمة الله وأبعده.

1 | 2 | 3